فصل: تفسير الآيات (197- 198):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (197- 198):

{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الألْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)}
قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} أي وقت الحج أشهر معلومات وهي: شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة إلى طلوع الفجر من يوم النحر، ويروى عن ابن عمر شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة وكل واحد من اللفظين صحيح غير مختلف، فمن قال عشر عبر به عن الليالي ومن قال تسع عبر به عن الأيام، فإن آخر أيامها يوم عرفة، وهو يوم التاسع وإنما قال أشهر بلفظ الجمع وهي شهران وبعض الثالث لأنها وقت والعرب تسمي الوقت تاما بقليله وكثيره فتقول العرب أتيتك يوم الخميس وإنما أتاه في ساعة منه، ويقول زرتك العام، وإنما زاره في بعضه، وقيل الاثنان فما فوقهما جماعة لأن معنى الجمع ضم الشيء إلى الشيء، فإذا جاز أن يسمى الاثنان جماعة جاز أن يسمى الاثنان وبعض الثالث جماعة وقد ذكر الله تعالى الاثنين بلفظ الجمع فقال: {فقد صغت قلوبكما} [4- التحريم] أي قلباكما، وقال عروة بن الزبير وغيره: أراد بالأشهر شوالا وذا القعدة وذا الحجة كملا لأنه يبقى على الحاج أمور بعد عرفة يجب عليه فعلها، مثل الرمي والذبح والحلق وطواف الزيارة والبيتوتة بمنى فكانت في حكم الجمع {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} أي فمن أوجب على نفسه الحج بالإحرام والتلبية وفيه دليل على أن من أحرم بالحج في غير أشهر الحج لا ينعقد إحرامه بالحج، وهو قول ابن عباس وجابر وبه قال عطاء وطاووس ومجاهد وإليه ذهب الأوزاعي والشافعي وقال ينعقد إحرامه بالعمرة لأن الله تعالى خص هذه الأشهر بغرض الحج فيها فلو انعقد في غيرها لم يكن لهذا التخصيص فائدة، كما أنه علق الصلوات بالمواقيت ثم من أحرم بفرض الصلاة قبل دخول وقته لا ينعقد إحرامه عن الفرض وذهب جماعة إلى أنه ينعقد إحرامه بالحج وهو قول مالك والثوري وأبي حنيفة رضي الله عنهم، وأما العمرة: فجميع أيام السنة لها إلا أن يكون متلبسا بالحج، وروي عن أنس أنه كان بمكة فكان إذا حمم رأسه خرج فاعتمر.
قوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ} قرأ ابن كثير وأهل البصرة {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ} بالرفع والتنوين فيهما، وقرأ الآخرون بالنصب من غير تنوين كقوله تعالى: {وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} وقرأ أبو جعفر كلها بالرفع والتنوين، واختلفوا في الرفث: قال ابن مسعود وابن عباس وابن عمر هو الجماع وهو قول الحسن ومجاهد وعمرو بن دينار وقتادة وعكرمة والربيع وإبراهيم النخعي، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: الرفث غشيان النساء والتقبيل والغمز، وأن يعرض لها بالفحش من الكلام قال حصين بن قيس أخذ ابن عباس رضي الله عنه بذنب بعيره فجعل يلويه وهو يحدو ويقول:
وهن يمشين بنا هميسا ** إن تصدق الطير ننك لميسا

فقلت له أترفث وأنت محرم، فقال إنما الرفث ما قيل عند النساء، قال طاووس: الرفث التعريض للنساء بالجماع وذكره بين أيديهن، وقال عطاء: الرفث قول الرجل للمرأة في حال الإحرام إذا حللت أصبتك، وقيل: الرفث الفحش والقول القبيح، أما الفسوق: قال ابن عباس: هو المعاصي كلها وهو قول طاووس والحسن وسعيد بن جبير وقتادة والزهري والربيع والقرظي، وقال ابن عمر: هو ما نهي عنه المحرم في حال الإحرام من قتل الصيد وتقليم الأظافر، وأخذ الأشعار، وما أشبههما وقال إبراهيم وعطاء ومجاهد؛ هو السباب بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» وقال الضحاك هو التنابز بالألقاب بدليل قوله تعالى: {ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان} [11- الحجرات].
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا آدم أخبرنا سيار أبو الحكم قال سمعت أبا حازم يقول: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه».
قوله تعالى: {وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} قال ابن مسعود وابن عباس: الجدال أن يماري صاحبه ويخاصمه حتى يغضبه، وهو قول عمرو بن دينار وسعيد بن جبير وعكرمة والزهري وعطاء وقتادة، وقال القاسم بن محمد: هو أن يقول بعضهم الحج اليوم ويقول بعضهم الحج غدا، وقال القرظي: كانت قريش إذا اجتمعت بمنى قال هؤلاء: حجنا أتم من حجكم، وقال هؤلاء: حجنا أتم من حجكم وقال مقاتل: هو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم في حجة الوداع وقد أحرموا بالحج: «اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي» قالوا كيف نجعله عمرة وقد سمينا الحج؟ فهذا جدالهم، وقال ابن زيد: كانوا يقفون مواقف مختلفة كلهم يزعم أن موقفه موقف إبراهيم يتجادلون فيه، وقيل: هو ما كان عليه أهل الجاهلية كان بعضهم يقف بعرفة وبعضهم بالمزدلفة، وكان بعضهم يحج في ذي القعدة وكان بعضهم يحج في ذي الحجة فكل يقول ما فعلته فهو الصواب، فقال جل ذكره {وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} أي استقر أمر الحج على ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا اختلاف فيه من بعد، وذلك معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض» قال مجاهد: معناه ولا شك في الحج أنه في ذي الحجة فأبطل النسيء قال أهل المعاني: ظاهر الآية نفي، ومعناها نهي، أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا، كقوله تعالى: {لا ريب فيه} أي لا ترتابوا {وما تفعلوا من خير يعلمه الله} أي لا يخفى عليه فيجازيكم به.
قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} نزلت في ناس من أهل اليمن كانوا يخرجون إلى الحج بغير زاد ويقولون نحن متوكلون، ويقولون: نحن نحج بيت الله فلا يطعمنا؟ فإذا قدموا مكة سألوا الناس، وربما يفضي بهم الحال إلى النهب والغصب، فقال الله عز وجل: {وَتَزَوَّدُوا} أي ما تتبلغون به وتكفون به وجوهكم، قال أهل التفسير: الكعك والزبيب والسويق والتمر ونحوها {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} من السؤال والنهب {وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الألْبَابِ} يا ذوي العقول.
قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا علي بن عبد الله أخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فلما كان الإسلام تأثموا من التجارة فيها فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} في مواسم الحج، قرأ ابن عباس كذا، وروي عن أبي أمامة التيمي قال: قلت لابن عمر: إنا قوم نكري في هذا الوجه، يعني إلى مكة، فيزعمون أن لا حج لنا، فقال: ألستم تحرمون كما يحرمون وتطوفون كما يطوفون وترمون كما يرمون؟ قلت بلى، قال: أنت حاج: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الذي سألتني عنه فلم يجبه بشيء حتى نزل جبريل بهذه الآية {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} أي حرج {أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا} أي رزقا {مِنْ رَبِّكُمْ} يعني بالتجارة في مواسم الحج {فَإِذَا أَفَضْتُمْ} دفعتم، والإفاضة: دفع بكثرة وأصله من قول العرب: أفاض الرجل ماء أي صبه {مِنْ عَرَفَاتٍ} هي جمع عرفة، جمع بما حولها وإن كانت بقعة واحدة كقولهم ثوب أخلاق.
واختلفوا في المعنى الذي لأجله سمي الموقف عرفات واليوم عرفة فقال عطاء: كان جبريل عليه السلام يري إبراهيم عليه السلام المناسك ويقول عرفت؟ فيقول عرفت فسمي ذلك المكان عرفات واليوم عرفة، وقال الضحاك: إن آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض وقع بالهند وحواء بجدة فجعل كل واحد منهما يطلب صاحبه فاجتمعا بعرفات يوم عرفة وتعارفا فسمي اليوم يوم عرفة والموضع عرفات، وقال السدي لما أذن إبراهيم في الناس بالحج وأجابوه بالتلبية وأتاه من أتاه أمره الله أن يخرج إلى عرفات ونعتها له فخرج فلما بلغ الجمرة عند العقبة استقبله الشيطان ليرده فرماه بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة فطار فوقع على الجمرة الثانية، فرماه وكبر فطار، فوقع على الجمرة الثالثة فرماه وكبر فلما رأى الشيطان أنه لا يطيعه ذهب فانطلق إبراهيم حتى أتى ذا المجاز، فلما نظر إليه لم يعرفه فجاز فسمي ذا المجاز، ثم انطلق حتى وقف بعرفات فعرفها بالنعت فسمي الوقت عرفة والموضع عرفات حتى إذا أمسى ازدلف إلى جمع، أي قرب إلى جمع، فسمي المزدلفة.
وروي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنه أن إبراهيم عليه السلام رأى ليلة التروية في منامه أنه يؤمر بذبح ابنه فلما أصبح روى يومه أجمع أي فكر، أمن الله تعالى هذه الرؤيا أم من الشيطان؟ فسمي اليوم يوم التروية، ثم رأى ذلك ليلة عرفة ثانيا فلما أصبح عرف أن ذلك من الله تعالى فسمي اليوم يوم عرفة، وقيل سمي بذلك لأن الناس يعترفون في ذلك اليوم بذنوبهم، وقيل سمي بذلك من العرف وهو الطيب، وسمي منى لأنه يمنى فيه الدم أي يصب فيكون فيه الفروث والدماء ولا يكون الموضع طيبا وعرفات طاهرة عنها فتكون طيبة.
قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ} بالدعاء والتلبية {عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} ما بين جبلي المزدلفة من مأزمي عرفة إلى المحسر، وليس المأزمان ولا المحسر من المشعر، وسمي مشعرا من الشعار وهي العلامة لأنه من معالم الحج، وأصل الحرام: من المنع فهو، ممنوع أن يفعل فيه ما لم يؤذن فيه، وسمي المزدلفة جمعا: لأنه يجمع فيه بين صلاتي العشاء، والإفاضة من عرفات تكون بعد غروب الشمس، ومن جَمْعٍ قبل طلوعها من يوم النحر.
قال طاووس كان أهل الجاهلية يدفعون من عرفة قبل أن تغيب الشمس ومن مزدلفة بعد أن تطلع الشمس ويقولون: أشرق ثبير كيما نغير فأخر الله هذه وقدم هذه.
أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن موسى بن عقبة عن كريب مولى عبد الله بن عباس عن أسامة بن زيد أنه سمعه يقول: «دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة حتى إذا كان بالشعب نزل فبال، ثم توضأ فلم يسبغ الوضوء، فقلت له: الصلاة يا رسول الله قال: فقال الصلاة أمامك، فركب فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت العشاء فصلاها ولم يصل بينهما شيئا».
وقال جابر: «دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا، ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة، فدعاه وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا فدفع قبل أن تطلع الشمس».
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا زهير بن حرب أخبرنا وهب بن جرير أخبرنا أبي عن يونس الأيلي عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أسامة بن زيد كان ردف النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة إلى المزدلفة ثم أردف الفضل من مزدلفة إلى منى، قال: فكلاهما قال لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى جمرة العقبة.
قوله تعالى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} أي واذكروه بالتوحيد والتعظيم كما ذكركم بالهداية فهداكم لدينه ومناسك حجه {وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} أي وقد كنتم، وقيل: وما كنتم من قبله إلا من الضالين. كقوله تعالى: {وإن نظنك لمن الكاذبين} [186- الشعراء] أي: وما نظنك إلا من الكاذبين، والهاء في قوله: {من قبله} راجعة إلى الهدى، وقيل: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كناية عن غير مذكور.

.تفسير الآيات (199- 202):

{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)}
قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} قال أهل التفسير، كانت قريش وحلفاؤها ومن دان بدينها، وهم الحمس، يقفون بالمزدلفة ويقولون: نحن أهل الله، وقطان حرمه، فلا نخلف الحرم ولا نخرج منه، ويتعظمون أن يقفوا مع سائر العرب بعرفات، وسائر الناس كانوا يقفون بعرفات، فإذا أفاض الناس من عرفات أفاض الحمس من المزدلفة، فأمرهم الله أن يقفوا بعرفات ويفيضوا منها إلى جمع مع سائر الناس، وأخبرهم أنه سنة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وقال بعضهم خاطب به جميع المسلمين.
وقوله تعالى: {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} من جَمْعٍ أي ثم أفيضوا من جمع إلى منى، وقالوا لأن الإفاضة من عرفات قبل الإفاضة من جمع، فكيف يسوغ أن يقول فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ثم أفيضوا من عرفات؟ والأول قول أكثر أهل التفسير.
وفي الكلام تقديم وتأخير تقديره: فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام.
وقيل: ثم بمعنى الواو أي وأفيضوا، كقوله تعالى: {ثم كان من الذين آمنوا} [17- البلد] وأما الناس فهم العرب كلهم غير الحمس.
وقال الكلبي: هم أهل اليمن وربيعة، وقال الضحاك: الناس هاهنا إبراهيم عليه السلام وحده كقوله تعالى: {أم يحسدون الناس} [54- النساء] وأراد محمدا صلى الله عليه وسلم وحده ويقال هذا الذي يقتدى به ويكون لسان قومه وقال الزهري: الناس هاهنا آدم عليه السلام وحده دليله قراءة سعيد بن جبير ثم أفيضوا من حيث أفاض الناسي بالياء ويقال: هو آدم نسي عهد الله حين أكل من الشجرة.
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال: سئل أسامة وأنا جالس كيف كان يسير رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حين دفع؟ قال: كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص، قال هشام: والنص فوق العنق.
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا سعيد بن أبي مريم أخبرنا إبراهيم بن سويد حدثني عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب قال أخبرني سعيد بن جبير مولى والبة الكوفي حدثني ابن عباس أنه دفع مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة فسمع النبي صلى الله عليه وسلم وراءه زجرا شديدا وضربا للإبل فأشار بسوطه إليهم وقال: «أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس بالإيضاع، {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}».
قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} أي فرغتم من حجكم وذبحتم نسائككم، أي ذبائحكم، يقال: نسك الرجل ينسك نسكا إذا ذبح نسيكته، وذلك بعد رمي جمرة العقبة والاستقرار بمنى {فَاذْكُرُوا اللَّهَ} بالتكبير والتحميد والثناء عليه {كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُم} وذلك أن العرب كانت إذا فرغت من الحج وقفت عند البيت فذكرت مفاخر آبائها، فأمرهم الله تعالى بذكره وقال: فاذكروني فأنا الذي فعلت ذلك بكم وبآبائكم وأحسنت إليكم وإليهم.
قال ابن عباس وعطاء: معناه فاذكروا الله كذكر الصبيان الصغار الآباء، وذلك أن الصبي أول ما يتكلم يلهج بذكر أبيه لا بذكر غيره فيقول الله فاذكروا الله لا غير كذكر الصبي أباه أو أشد، وسئل ابن عباس عن قوله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُم} فقيل قد يأتي على الرجل اليوم ولا يذكر فيه أباه، قال ابن عباس: ليس كذلك ولكن أن تغضب لله إذا عصي أشد من غضبك لوالديك إذا شتما، وقوله تعالى: {أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} يعني: وأشد ذكرا، وبل أشد، أي وأكثر ذكرا {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا} أراد به المشركين كانوا لا يسألون الله تعالى في الحج إلا الدنيا يقولون اللهم أعطنا غنما وإبلا وبقرا وعبيدا، وكان الرجل يقوم فيقول يارب: إن أبي كان عظيم القبة كبير الجفنة كثير المال فأعطني مثل ما أعطيته، قال قتادة هذا عبد نيته الدنيا لها أنفق ولها عمل ونصب {وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} حظ ونصيب.
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} يعني المؤمنين، واختلفوا في معنى الحسنتين قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الدنيا حسنة: امرأة صالحة، وفي الآخرة حسنة: الجنة.
أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد الحنيفي أنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الطوسي أخبرنا أبو بكر أحمد بن يوسف بن خلاد أنا الحارث بن أبي أسامة أنا أبو عبد الرحمن المقري أخبرنا حيوة وابن لهيعة قالا أخبرنا شرحبيل بن شريك أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي يحدث عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الدنيا كلها متاع وخير متاعها المرأة الصالحة» وقال الحسن: في الدنيا حسنة: العلم والعبادة، وفي الآخرة حسنة، الجنة، وقال السدي وابن حبان: {فِي الدُّنْيَا حَسَنَة} رزقا حلالا وعملا صالحا، {وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَة} المغفرة والثواب.
أخبرنا أبو بكر بن محمد بن عبد الله بن أبي توبة أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث أخبرنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي أخبرنا عبد الله بن محمود أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ثنا عبد الله بن المبارك عن يحيى بن أيوب حدثني عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم أبي عبد الرحمن عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أغبط أوليائي عندي مؤمن خفيف الحاذ ذو حظ من الصلاة أحسن عبادة، ربه فأطاعه في السر، وكان غامضا في الناس لا يشار إليه بالأصابع، وكان رزقه كفافا، فصبر على ذلك، ثم نفض بيده فقال: عجلت منيته قلت بواكيه قل تراثه».
وقال قتادة: في الدنيا عافية وفي الآخرة عافية. وقال عوف في هذه الآية: من آتاه الله الإسلام والقرآن وأهلا ومالا فقد أوتي في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة.
أخبرنا الشيخ أبو القاسم عبد الله بن علي الكركاني الطوسي أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمش الزيادي أخبرنا أبو الفضل عبدوس بن الحسين بن منصور السمسار أخبرنا أبو حاتم محمد بن إدريس الحنظلي الرازي أخبرنا محمد بن عبد الله الأنصاري أخبرنا حميد الطويل عن ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا قد صار مثل الفرخ فقال: «هل كنت تدعو الله بشيء أو تسأله إياه؟ فقال يا رسول الله كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبني به في الآخرة فعجله لي في الدنيا فقال: سبحان الله إذن لا تستطيعه ولا تطيقه فهلا قلت: اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار».
أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن أبي إسحاق الحجاجي أخبرنا أبو العباس محمد بن عبد الرحمن الدعولي أخبرنا محمد بن مشكان أخبرنا أبو داود أخبرنا شعبة عن ثابت عن أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار}».
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الكسائي أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أخبرنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع بن سليمان أخبرنا الشافعي أخبرنا سعيد بن سالم القداح عن ابن جريج عن يحيى بن عبيد مولى السائب عن أبيه عبد الله بن السائب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: فيما بين ركن بني جمح والركن الأسود {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار}.
قوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ} حظ {مِمَّا كَسَبُوا} من الخير والدعاء والثواب والجزاء {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} يعني إذا حاسب فحسابه سريع لا يحتاج إلى عقد يد ولا وعي صدر ولا إلى روية ولا فكر.
قال الحسن: أسرع من لمح البصر وقيل: معناه إتيان القيامة قريب لأن ما هو كائن لا محالة فهو قريب، قال الله تعالى: {وما يدريك لعل الساعة قريب} [17- الشوري].